Wednesday, February 28, 2007
دفتر خروج المواليد


هكذا مددت عنقي ذات صباح استوائي حار رطب ماطر برائحة دمي المحتك بدم أمي , ونزلت من غصن رحيم . صدمة نزولي المفاجئ .. أربكت ذلك البيت الافريقيي الصغير , ووقفت الأشجار تنظر في خشوع , ها أندا غصن أخر يتبرعم ويرتفع فوق شجرة العائلة ليؤرخ لنفسه تاريخ .. ويسجل في دفتر خروج المواليد 12 أبريل .

أنا حكاية الانتظار في عنق الوجود ,
أمتد ما بين قلبي وأصابع الزمن
ثلاثون مرت ولا شئ سوى حبل معلق على جدار

سيرة : مرت منذ الليل الأول , الأزل الأول , النجم , الريح , المطر , أبريل منذ أمي وكنت فكرة لجنين غامض :
ما أن مددت راسي ليحتل تلك اليقظة المفاجئية داهمني صوت ملائكي يقول :

Hi I have waited so long to see you”
كانت أمي . ولأمي ضوء الملاك , صوت الملاك , وجه الملاك .
أغمضت عيني وأدركت بصورة غامضة جداً أنها غابة للفرح وارتباطي بها سرمديا . ذلك أنني كنت سأكون أكثر تعاسة لو لم آت من هذه الأم بالذات .

تعلقي بها : شمس لا تنفصل عن أشعتها .
بين الفرح وأشيائي التي تفيض عن الوصف ,
تقف أمي في المنتصف .
تطبع في ذاتي اوركسترا الوجود .
أنيقة أمي حتى في حزنها .
وقلبها نكهة الصباح .

لحظة الخروج

هرولت جدتي تعلن خروجي . نظرت إلي ( كأنني نزلت من قوس النصر) , صرخت بشدة ـ تقول جدتي ـ " يومها خرج الكلب " تكساس " في مظاهرة نباح عالية , فأيقظ الدجاجات النائمة وكان هناك ما يشبه العصيان المدني .
أحببت كل شئ في ذلك البيت الافريقيي . " تكساس " ذو الأرجل الطويلة والدجاجات التي تربيها جدتي في حظيرة المنزل وطون ذلك الرجل الذي تكفل بحراستي وحمايتي في صغري .


جدتي : أسطورة الغابة .
مرآة الحكمة ,
ذاكرة تمتد على بعد ثلاثين
خُطى الروح في عرض أبعادي .
يا جدة :
" إذا أتتني الرياح من كل جانب ؟ "
ترد : اجعلي رأسك تحت جناحيّ !
وترتفع جدتي : على شاكلة السماء , كليمنجاروالنهر الأخضر .
سمو إفريقيا .
الغابة
وأغاني الماساي .
تزدهر طفولتي .
صباي ,
حزني ورحيلي الموجع في قلب الليل .

الآن لا أجد سوى ذاكرة جدتى والغربة .

لحظة الصحو

بين كل إغفاءة وإغماضة , أراه ويدي الصغيرة بين أصابعه ـ والدي ـ شمس الضحى ـ غريب. يهيم في فضائه الضبابي .
" أسميك سولارا ـ لأن الشمس الآن في الأفق الشرقي ترتفع في خط الاستواء والصباح سيحملك دائماً قريبة إلى مدار القلب .
لحظتها غرد راعي من الماساي ينادي على أبقاره ، وشف بوالدي الحنين . الأرض , الانتماء , وحزن يمتد بين قارتين .
أبى :
يجلس على حافة الليل .
يناجى الله .
يدي بيده ,
يقرأ : تشبيهين أمي يا سول " soul"
وأمي تشبهني !
أنظر في عينيه
وأنتشي .

بداية

كنت ألج عالمي الخاص وتمتد إفريقيا بامتداد أحلام طفولتي ، بيتنا ، النهر ، أشجار الموز ، مطاردة الإوز في صباحات الأحد ، الركض تحت الأمطار الاستوائية الدافئة ,
حتى في تلك الطفولة البعيدة القريبة إلى القلب الآن . كان يداهمني سؤال السفر والرحيل , ربما بسبب تنقلنا الدائم في أفريقيا بسبب عمل والدي . كان صعباً أن تكون هناك علاقة صداقة دائمة مع الآخرين ، لذلك كنت اقترب من نفسي كثيراً ، وكلما تمعنت في ذاتي كنت اشعر بالجحيم وأدرك بصورة قاطعة اننى سوف أغادر أفريقيا للأبد وأقلقني هذا كثيرا كنت ألوذ أحياناً بالصمت وبداخلي ضجيج مستعصي الإيقاع كأنه الريح التي تعصف من كل الجهات . قلق ينزل في حدود ذعري ، وألمح من بين شقوق الأصابع الممتدة لوداع الرفاق ، ألمح مركبة الرحيل تهبط من كفي وتتوقف عند أعتاب كلمينجارو ، والتفت لأرى البيوت ونوافذها المهجورة خرائب... محطات للعمى , إيماءات تنذر بالصمت الأبدي ... وثمة استحالة للرجوع لطفولة الروح ووداعة أفريقيا ... تراقبني النجوم وأنا في دوراني المحموم وأقول لنفسي :

ألهي أطلقني غزالا في الريح لأثب في السافانا .
أعدو وحيدة كبقايا الرعد ويتبعني الهدهد والخرزة النافرة
وردة الضحى .
وكثيراً من أغاني الماساي

ها كل شيء في طفولتي كان يهيؤني لأكون أنا كما هي الآن !

لحظة البدء

التفت إلى تلك اللحظة الآن وأندهش , هو الشعر كان يختبئ في جسد أرنب صغير سميته جأفر ( جعفر) على شخصية جعفر في قصة علاء الدين والمصباح السحري ) .
كيف أتى ذلك الأرنب وكيف أحببته واتخذته صديقا !

كنت أقفز برجل واحدة أو اقفز لكي أتخطى دوائر الماء التي خلفها المطر في الأرض , هناك رايته أرنبا صغيرا منغرسا في طين كثيف لزج مذعورا وكان يرتجف التفت إليه والتقت أعيننا ـ كان لي من العمر 11 عاما ولم يكن للأرنب عمر , كان ناعما وأبيض وله أذنان رماديتان ! حملته وقلت له : سأسميك JAFAR وحملته بيديّ فنام غريرا شديد الدفء . أحببته بقلبي الصغير .. ألتفت الآن إلى سيرة جعفر واندهش ! لماذا لم أكن أدون ما كنت أشعر به نحوه وأقوله له لحظتها ؟ ذلك الأرنب البري الذي صار أليفا يتبعني كظلي ويأكل من يدي ؟. لم أدر ما الذي أغضبه فاختفى ذات صباح ، أربكني اختفاؤه وأغضبني . ها هو الآخر مثل الأصدقاء الذين كنت ألتقي بهم ، وسرعان ما أقول لهم الوداع بسبب تنقلنا الكثير بحكم عمل والدي .. غضبت من جعفر وكتبت حزني في ورقة وغرستها في نفس المكان الذي وجدته فيه أناشده أن يعود . ولكن جعفر لم يعد . وامتلأت أنا بدموع الفقد والكلمات ، ووقفت في نفس المكان انتظر جعفر. لحظة وقوفي هناك شعرت بيد تضغط بلطف على رأسي ، تزرع الكلمات واللغة والحروف والنقاط ، فصار المكان اخضر ممتلئ بالحشائش والأزهار ووجه إفريقيا وأرانب كثيرة تتقافز وصوت يقرأ برفق :

أيها الأرنب البري
كأنك كف السحاب ,
شفيفاً كمطر يتحرك في يدي زخة ماء
ذاب عشقك في دمي
أنت عشب الحياة !

رفعت رأسي ورأيت جناحا يترك المكان والزمان ، كان غروب والأرض خضراء والأزهار البرية صفراء , قرمزية , حمراء , برتقالية , بنفسجية , بيضاء . كانت قوس قزح, وأفريقيا في أوج جمالها , وكليمنجارو يمتد بحدود الدنيا وعالمي كله ، وكنت أقف في المنتصف كغزال تائه أبكي غياب جعفر ، ومن فرط دهشة الإحساس من تلك اليد الخفية التي زرعت برأسي وقلبي جمال الحروف , ركضت خلف قوس قزح حيث يختبئ الكنز .
لمدة طويلة كنت أرى جعفر في نومي وأنا أعدو خلفه ويرتفع جعفر كزئبق مراوغ .
والآن أنا أعدو خلف أشياء كثيرة وتستعصي علي الأحلام !

بدأت اكتب خربشات اسميها شعراً وينبهر بها الأصدقاء من حولي .
ـ تحبين الشعر ؟
ـ كثيرا .
ـ هل تحبين قراءة الشعر بالعربي ؟
ـ سأحاول قراءته !
ـ سأشرح لك الكلمات التي لا تفهمينها .
هذا حوار بيني وبين صديقتي العزيزة سهيلة ، سهيلة التي أهدتني مجلة بها قصيدة أعجبتها .. وغيّرت تلك القصيدة مجرى رؤيتي للغة العربية . دوّنتها في مفكرتي وكتبت اسم شاعرها وحملتها معي كلما سافرت .. غير أن المجلة والمفكرة والطفلة ابنة الأربعة عشر عاماً سرقتهم الحقائب .. ولم تبق منهم سوى مقطع من القصيدة أردده في كل مطار .. وحنين يكتظ إلى إفريقيا ..
رحبت بسرور حين عرضت عليّ صديقتي الطيبة
منال خميس أن تعرفني على شاعر فلسطيني أسمه باسم الهيجاوي بعد أن أجرت معه حواراً إعلامياً .. ورغم أن الاسم كان قريباً إلى الذاكرة .. لكني انتهزت فرصة هذا اللقاء الأول على شبكة الانترنت لأسأل الشاعر باسم الهيجاوي عن شاعر فلسطيني .. ضحك كثيراً حين سألني عن اسمه فقلت : لا أعرف ..
ـ وماذا تعرفين عنه ؟
قلت : لا شيء ..
قال : أهو لغز ؟
قلت : لا .. ولكن عندما كنت في كينيا .. كان لي صديقة اسمها سهيلة .. أهدتني ذات طفولة مجلة فيها قصيدة غيرت مجرى رؤيتي للغة العربية .. وهي لشاعر فلسطيني نسيت اسمه ونسيت اسم المجلة ونسيت اسم القصيدة .. لكني لا زلت أحفظ مقطعاً منها .. أردده كل مطار ..
ـ ما هو المقطع ؟
قلت :
" فحملت في كفي جوازي
قلت من حزني أهاجر "
ـ انتظري .. أيقول :
وتذاكر الأحزان قد فردت جناحيها
وقالت لي : مسافر ؟
فحملت في كفي جوازي
قلت من حزني أهاجر ؟
ـ نعم .. نعم .. هو .. هو ..هل تعرف شيئاً عنه .. هل تعرف من هو ؟
رد بلحظة مربكة الدهشة :
ـ هو أنا .

بداية التشتت مصاهرة الجنون
ذات يوم فقدت فيه كل ترتيب منطقي للأشياء من حولي ، تدفق الجنون أمام عيني كنتُ موبوءة بالحزن ، أصغيت إلى كآبتي ، حاذيت خطو الغربة ، وكل ما حولي يرجمني بخرائب الانهيار ، فلم أدرك إلا وأنا على حافة عزلة تزرع براعم الانتحار بحرفنة عالية تحت جلدي ، فكان الموت ضدي ، والحلم ضدي .انهزمت ، احترقت ، ومشيت بين دمي النافر وعقلي الموسوس ، وأيقنت أنني لا شيء أمام سهوب الهستريا التي أصبحت تقتات من دمي ، فركضت في المتاهة وتبعثرت أعضائي في بياض الورق .هكذا اشتعلت الكتابة في دمي . ودخلتها عزلاء إلا من جلبة خطواتي وهى تعبر انهزام الأحلام خطوة ، خطوة لتوثق لها .لم تكن الكتابة عندي نزيفا بقدر ما كانت ضمادة لوقف النزيف ، حضور الكتابة عندي يستدعي عقلي الباطن ، نشأتي ، طفولتي ، ثقافتي ، تعليمي ، أفريقيا ، أحلامي بعالم ممتليء بالإنسانية ، حماقاتي ، نزقي ، سيئاتي ، حسناتي ، كل المعاصي التي ارتكبتها عن قصد أو دون قصد أو نكاية بغباء العالم ، إنها ببساطة الكائن المسمى سولارا .. وهي أنا .
أين أثـري الآن ؟

هكذا كانت كتاباتي منذ بدايتها مجازفة لتشريح ذاكرتي ، انتفاضة ضد الظلم والزيف والتسامي أمام الذات ، كنت أجلس في ذلك المنحنى الذي يتيح لي مراقبة نفسي والآخرين ، كنت أحزن وأنا أرى ملامحي الغضة تمتلئ عصيانا وتمردا . هربت إلى الكتب لكي أربي اللغة في دمى تركتها تتحدث ودخلت في الصمت ، أشفق عليّ والدي اللذان أرسلاني إلى أمريكا في عمر مبكر لكي أدرس هناك حتى أتاهل لدخول إحدى الجامعات الأمريكية ، وكانت هذه بداية المعصية وعهد الصقيع وغربة النفس التي لم تنته إلى الآن . أول نص كتبته كان اسمه Disobedience "تمرد " اشتركت به في مسابقة للشعر وهى مسابقة تقيمها المكتبة العامة للتلاميذ في عمر 16 سنة . وأمام دهشتي فاز النص بالمرتبة الثالثة . لم أفرح شعرت أنني أخون أحاسيسي وقداسة ذكرياتي ، ربما لأني استدعيت فيه وجه أمي الحزين وشعرت أنى عريت جانبا مقدسا لا يجب المساس أو ربما كانت تنقصني الحكمة في ذلك العمر لذلك لم اذهب لاستلام الجائزة لحظتها ، شعرت أن الكتابة ستكون ضدي كما الحلم والموت تماما ، لأن اللغة تبطش بي دائما . وتتنكر لي حتى في فترة مراهقتي تلك لم يشفع للغة فوز نص لي بل ظلت تفر مني لا ترضى أن تفتح لي أبوابها ولم تتواضع أمامي، حتى عندما كنت أهرع إلى دفتر مذكراتي ، إذ تمتزج الحروف بالدموع تقف اللغة موقف الخصام معي لأركن مرة أخرى للصمت المهين!

ها هي السنوات تفر من عمري الآن والكتابة مازالت رموزا لا أستطيع حلها . يصهرني عجزي أمام عدم إيجاد الكلمة التي تعبر عما أريده بالضبط
posted by solo @ 4:37 PM   1 comments
About Me


Name: solo
Home: Canada
About Me:
See my complete profile

Previous Post
Archives
Links
Template By
Free Blogger templates